أنا وبصراحة مُرعَبة من الفراغ الأبيض الهائل القابع أمامي، يبدو وكأنه ينتظرني أن أخط عليه وأنقذه من عذابه! لنرى ان كنت سأحرره من سطوع الأبيض وفراغه.

فكرت كثيرًا بالفضول إلى أن أصابني الفضول! لاحظت أن من أبرز صفاتي هي صفة الفضول، والفضول أيضًا هو ما يجذبني بالأشخاص من حولي. أعتقد أنه لو كانت أيامي بلا فضول كنت سأعاني عند النهوض من سريري في الصباح، ولكن الفضول هو ما يوقظني، يُقبل علي بدلو مليء بالأسئلة فتنهال علي كما ينهال الماء البارد لتسري رعشة في جسدي تجعلني في قمة النشاط. طبعًا هذا ليس الحال في جميع الأيام، أتمنى ان يكون هذا الحال الدائم، ولكن دوام الحال من المحال. لذا في بعض الأيام أستيقظ أنا أولًا قبل فضولي، عندها أنا من أنهال عليه بدلوٍ من الماء البارد.

على العموم لا أذكر أنني عشت يومًا واحدًا بدون أن تعتريني رغبة لسبر أغوار فكرةٍ ما. لطالما لازمتني طفلة تختبر الحياة لأول مرة في جميع أيامي، دانة الصغيرة في داخلي نهمة للغاية يصعب ارضاؤها بمعلوماتٍ سطحية غير مثيرة للاهتمام، تظل تطرح الأسئلة سؤالًا تلو الآخر إلى أن تصل للعمق الذي تريده. والأطفال يعلمونني دومًا الكثير في عدم استسلامهم عند سماع الجواب الأول، فتجدهم بعد كل جواب يبدأ سؤال آخر. حتى عندما أذهب لمكانٍ ما وأعتقد أنني استكشفته كفاية، أذهب مرة أخرى مع طفل ما، فأجدني أعيد استكشاف المكان من جديد…

الفضول يجعلك ترى الجانب المضيء من كل شيء، عندما تكون فضوليًا تبقى طيلة الدهر مندهشًا. حتى في حزنك تتساءل وتندهش من تقلب المشاعر، وبكل فضول تترقب الشعور المقبل من بعيد، كل شيء يعكر صفو يومك يصبح محل للتساؤل والتمحيص لأنك ترى في نفسك كائنًا مثير للدهشة! ما يرضيه غريب وما يبكيه غريب وما يمرضه غريب وما يشفيه غريب. لا أدّعي المثالية للأمانة، ولكن هذا هو حالي عندما أكون فضولية، كل شيء يصبح محل للتأمل والنظر فيه والاندهاش منه، وكأنني أراقب حياتي من بعيد!

كل شيء يصبح فجأة مرتبط ببعضه البعض عندما تكون واعيًا بمحيطك، حتى لو كان روتينًا رتيبًا تعيشه تعلّم أن تكون حاضرًا فستجد عندها أن حياتك مليئة بتدبير الله وهو أفضل تدبير! لأنه حبل ممتد من الماضي إلى الحاضر وثم للمستقبل الذي يعلمه هو فقط. تندهش لماذا اخترت سماع حلقة بودكاست معين مثلًا بدلًا من آخر، لأنك وجدت أنه يتحدث عن شيء للتو فقط أثار اهتمامك! فتندهش من ترتيب الله للأقدار حتى في أبسط وأتفه الأمور بالنسبة إليك، كاختيار ما تستمتع اليه بالطريق.

الفضول يمكن أن يتواجد في تفاصيل يومك الروتينية التي لم تتساءل عنها قط، بالنسبة لي إذا قمت بتدوين الأسئلة العابرة التي تراودني من بداية اليوم إلى نهايته سأجد أنها ستتراوح ما بين ال50 إلى ال60 سؤال. ليست أسئلة تعجيزية البتة، بل هي أسئلة طفولية للغاية ولكنها الأكثر عبقرية على الاطلاق، وهي مصدر الهامي في كل جانب من جوانب حياتي. على الأغلب أنني من الآن فصاعدًا سأدوّن كل سؤالٍ يراودني بلحظته، وأبحث عن هذه الأسئلة في نهاية اليوم. لا يجب علي أن أتجاهل دانة الصغيرة وحاجتها المُلحة للأجوبة!

لا أشعر بالفضول تجاه حيوات الآخرين، ولكن أشعر بالفضول تجاه تصرفاتهم ودوافعهم ومشاعرهم والظروف التي آلت بهم إلى ما هم عليه، لذا لنقل أنني أشعر بالفضول تجاه النفس البشرية بحد ذاتها. فأجدني عندها لا أنفعل بسهولة انفعالهم لأنني أعلم بأن هناك قصة خلف كل شيء. لكن أشعر بالفضول الشديد تجاه الحياة وأسرارها التي لا تنتهي، أتعجب لغموضها وتقلباتها، أتعجب عندما أعلم أن كل ما وصلنا إليه من العلوم هو لا شيء بالحقيقة! أتعجب لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾

فأجدني أُعظّم الله أكثر وأكثر، فهو الذي يملك مفاتيح الغيب وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء، فمن أنا يا الله وأنا أحاول بفضولي الذي لا ينهب أن أتعلم من العلم الكثير وفي المقابل سأفنى وانا لم أتعلم حتى كل ما هو متاح لي. أتساءل وانا مليئة بالدهشة والعظمة تجاه الله جل و تعالى الذي أنزل لنا العلم وأدوات التعلم، ولكن كل هذا العلم الذي ما زلنا في صدد “محاولة” اكتشافه لا يتجاوز ذرة من علم الله تعالى؟ ما أعظمك يا الله وما أجهلنا!

اذا أردت أن تتبنى الفضول طفلًا، عليك بالإنصات والملاحظة. لاحظت أننا دومًا نريد أن نكون نجم المشهد أو حتى ممثلًا ثانويًا يتمنى مشهدًا يجمعه مع النجم، ولكن لِمَ نأبى أن نكون المشاهد للحظة؟ الانصات والملاحظة يخلقان الفضول والملايين الملايين من الأسئلة. في بعض الأحيان لا يتطلب منك أن تُبدي ردة فعل، في بعض الأحيان يجب علينا أن نخالف القانون الفيزيائي الذي ينص على أن لكل فعلٍ ردة فعل تساويه بالمقدار وتعاكسه في الاتجاه، في بعض الأحيان المقدار يكون صفرًا والاتجاه يكون متماشيًا مع الفعل بكل سلاسة…

أخيرًا أصدقائي، لا تتجاهلوا أسئلتكم أو حتى أسئلة الأطفال من حولكم، قوموا بتغذيتهم بأجوبةٍ تشبعهم، لينموا فضولهم عنان السماء فتنموا معه أجسادهم الصغيرة لتحاول الامساك به!

(صورة المقالة صورة تعبر عن الفضول والدهشة فعلًا، تحوي أطفالي الذين لم أنجبهم، شيخة وسعود أبناء لأخت تجسّد الفضول بحد عينه. تُبهرني بكل جانبٍ من جوانب حياتها، ولذا بالتالي أطفالها يتبعون خُطاها في ابهاري. أعتقد أنني أخت وخالة محظوظة وللغاية!)