الساعة الثانية صباحًا وبجانبي كوبًا من القهوة أجزمت ألا أشربه بوقت متأخر كهذا، ولكنه يقبع أمامي الآن فارغًا، تاركًا الليل بأفكاره ومشاعره يغمرانني بدلًا من النوم. مرّ وقت طويل على أخر تدوينة لي، وأشعر بأن هذه التدوينة لا تحمل عنوانًا معينًا يحدّها، لأنني أكتب الآن بمشاعر غير مفهومة وكأن أناملي تمتلك إرادة حرة تقودني للكتابة. بصراحة كنت قد قررت أن أقرأ وكانت فكرة الكتابة تثقل كاهلي لأنني وللمرة الأولى لا أعلم كيف أحلل مشاعري لهذا الشهر الحافل. كان شهرًا مليء بالنعم والإنجاز ولكنني داخليًا أشعر بتركيبة عجيبة من المشاعر لم أعهدها من قبل، أشعر بأنها فترة انتقالية تنتظرني أن أمنحها لقبًا تستحقه وأعي رسالتها، ولكن لا أعلم إلى أين تأخذني، لا أعلم أين الوجهة ولا وسيلة المواصلات التي يجب علي أخذها. جلّ ما أعلمه الان هو أنني أبذل ما بوسعي لأقوم بتأدية مهام كل يومٍ بيومه، لا نظرة بعيدة للمستقبل ولا أخرى للماضي، فقط الحاضر هو ما يشغل بالي. ولا أستطيع القول أنني أُتمّ مهام الحاضر على أكمل وجه، أعتقد بأنني أُسخّر الطاقة المناسبة لكل مهمة، وهذا كافٍ.

يزورني هذا الشعور في فترات مختلفة، عندها لا أمانع حقًا من أن أعيش كل يوم بلا وجهة محددة، أسرح بأفكاري كثيرًا وما يهمني بالعادة يصبح بلا معنى. أشكك من جديد في كل قرار، وكل اعتقاد، وكل فكرة، وأتردد ان كان يجب علي أن آخذ منعطفًا ما أو أن أكمل الطريق للأمام فقط؟ ولكنني أعلم بأن مرحلة كهذه في خضم بناء شيء قوي بداخلي، شيء ما يصبح أصلب وأكثر وضوحًا بداخلي كل يوم، ولكن وأنا أراقب تطوراته، أراه يأخذ شكلًا جديدًا بعد كل فترة من الوقت، ولكنني أعلم بأن هذا اليوم آتٍ، اليوم الذي سينتهي اكتمال هذه المنحوتة الفنية فيه ويمكنني أخيرًا أن أميزها وأعطيها اسمًا. ولكن ما أعلمه أيضًا، أنني سأظل أنحت وأنحت من جديد إلى آخر يوم في حياتي، سيصبح لدي معرضًا خاص تبرز به منحوتاتي على أكمل وجه. وأعلم يقينًا، أنه ستكون هناك منحوتات لم تكتمل رغم وصول عمري إلى نهايته، ولكن لا بأس هذا ما يضفي للحياة بريقًا خلّاب.

مثلًا هذا الشهر أعدت علاقتي مع الفن، الفن الذي بدأ يبهت ويبهت جرّاء اهمالي له. القراءة هي الشيء الوحيد الذي لا يبهت ولن يبهت، فهي جزء لا يتجزأ من حياتي. ولكنني بدأت أعيد توطيد علاقتي مع الشعر مرة أخرى، دانة في السادسة عشر إلى التاسعة عشر كانت تكتب الكثير من الأبيات، ولكنني الان بالكاد أرتب بيتًا واحدًا في عقلي. لذا عدت لقراءة الشعر، وهذا الشهر اكتشفت أيضًا مهارتي في القراءة وتجسيد مشاعر النص المقروء بصوتي، لا استطيع أن أقول أنني ماهرة في الالقاء، لنقل فقط أنني استطيع إعطاء النصوص صوتًا يحمل في طياته الكثير. شيء اكتشفته مؤخرًا هو أنني أحب أن أقرأ تحليلًا ما للوحة معينة، أحب رؤية وجهات النظر المختلفة لذات اللوحة، فمناقشة فكرة اللوحة وأبعادها المخفية تحمل ذات الطابع الذي يحمله نادي القراءة الذي أنشأته، فمناقشة كتاب أو لوحة وسماع جميع الآراء المختلفة يشبه كثيرًا مسارات الحياة التي يعيشها كل شخص بناءً على منظوره، فمثل هذه الأنشطة تساعد على اكتساب المرونة لتفهم الاختلافات. ومن الفن أيضًا، أن أستشعر الحياة وأبطّئ لحنها السريع، أن أسمح لمشاعري أن تزورني بدون أن أؤجلها وأطردها وكأنها لا تخصني.

ربما تخصصي في الجامعة ساهم في تهميش الفن، رغم أن الفيزياء فن بحد ذاته وعبقرية خلّابة تفتح احتمالات ودوامات لا تنتهي من الالهام والفضول والابداع. ولكن خوض دراسته في نطام تعليمي شديد التنافسية يجعلني منطقية وعملية لحدٍّ كبير! فكلما أردت أن أبحر في جوانب الفيزياء التي لا يُعطى وقتًا كافيًا لها أو بالأصح أبدًا، أجد أنني من الأفضل أن أركز على الخطة الدراسية الموضوعة أمامي لأنال درجة ممتازة. وهذا ما يجعلني في مرات كثيرة أستطرد عن جزئية اختبارٍ ما لأبحث عن مفهوم جديد أعجبني ،وأغوص فيه بالساعات لأجد أن ورقة الاختبار خالية منه تمامًا. ولهذا قمت بشراء كتاب كامل مرفق بصور تخطف الانفاس عن الفيزياء الفلكية وعظمتها -التي نناقش 1% منها فقط في تخصصي- وأعدت سماع حوارات بين الفيزيائيين وبودكاستز مليئة بالفضول، لأعيد مشاعر فقدتها تبعًا لشدة التنافسية. وها أنا أكتب الآن وأعيد شغف الكتابة -وهي فنّي الذي رافقني منذ صغري- بلا أي تخطيط وانما مشاعر صادقة تنبع مني على شكل كلمات.

ربما انتهاء أجواء رمضان والعيد والانتقال بسرعة منها للحاق ما يمكن لحاقه من المهام كان من ضمن المؤثرات التي جعلت استشعاري يبهت، رغم أنني كنت مشغولة برمضان أيضًا ولكن كان فيه من السكينة ما يطبطب على قلبي وعقلي ويهمش كل ما هو دنيوي ومادي. ولكن ها أنا يا أصدقاء ممتنة أشد الامتنان على نعمة الشعور بحد ذاته، بغض النظر عن ماهية الشعور. وأتمنى من هذه الرحلة الانتقالية أن ترفق بي وتأخذني على مهل لوجهة لم أتوقعها البتة من شدة جمالها!

آه وأيضًا! أحب عائلتي وأصدقائي حدّ الجنون.