بدايةً هذه الرواية الوحيدة التي أبكتني إلى أن أصبحت الرؤية ضبابية ولم استطع اكمال قراءة بقية الصفحة، شعرت بمعاناة الشخصيات وكأنني رافقتهم في رحلتهم! بكيت وضحكت وأحببت وكرهت، معهم. وخلال مناقشة الكتاب مع القارئات الأخريات وجدت أنهم عاشوا مشاعر الشخصيات بذات العمق الذي شعرت به. فهذا ان دل فيدل على عبقرية الراوي خالد حسيني وقطعته الفنية التي لا يختلف عليها اثنان.

 لنرى اذًا ان كان بإمكاني اقناعكم باقتناء رواية عدّاء الطائرة الورقية!

نعيش أحداث الرواية بلسان ووجهة نظر أمير، أحد الشخصيات الرئيسية في الرواية وهو ابنًا لرجل تاجر، فمن خلال سرد أحداث الرواية بلسان أمير نجد أننا نعيش بعقله ونرى الأمور بمنظوره هو، وربما هذه احدى الأسباب التي جعلتني أتعاطف معه وإن كان على خطأ في بعض المواقف فأجدني أنحاز إلى صفّه، ربما لأنني أسمع أفكاره وتبريره ومعتقداته على عكس غموض دوافع الشخصيات الأخرى؟

بجانب أمير نرى البطل الآخر في الرواية صديق أمير المفضل، حسن. حسن كان شخصيتي المفضلة رغم أننا نراه في الرواية بعين أمير، إلا أن أمير كان يحبه كثيرًا ويقضي معظم الوقت معه، مما دفعنا نحن القرّاء أيضًا لحُبّ حسن وقضاء الوقت معه والاعجاب بولائه لأمير واخلاصه له. حتى وصف حسن عندما وُلد قائلًا:

“لم تكن بحاجة إلى قدر كبير من المساعدة على أية حال، لأن حسنًا، حتى عند الولادة، كان مخلصًا لطبعه. لم يكن قادرًا على إيذاء أي شخص، بضع همهمات، ودفعتين، وخرج حسن. خرج مبتسمًا.”

حسن ووالده كلاهما يعملان كخدم عند عائلة أمير. ونرى أن أمير وحسن لم تسنح لهما الفرصة لرؤية والدتهما، وجميعهم تربّوا على أيدي والدهما، لذا فعنصر الأم غائب في الرواية مم يجعلنا نستشعر تأثير ذلك في الأحداث.

من الفروقات أن أمير كان من “البشتون” وهم مجموعة قومية سنية، بينما حسن كان من “الهزاره” وهم مجموعة قومية أصولها ليست أفغانية أصيلة و تعتبر شيعية. فنجد أمير يصف طبيعة اختلافهما قائلًا:

“دعك من كل هذا، لان التاريخ لا يسهل تجاوزه، ولا الدين. في نهاية المطاف أنا بشتون وهو هزاره، أنا سني وهو شيعي، تلك حقيقة لم يكن لأي شيء أن يغيرها، أي شيء. لكننا كنا طفلين تعلما الحبو معًا، تلك حقيقة أيضًا لا يستطيع التاريخ أو العرق أو المجتمع أو الدين أن يغيرها.”

 وهذا ما أضاف نكهة للرواية جعلتنا نخوض في طبيعة الحياة عند الأفغان ونلمس جزء من ثقافتهم وطريقة حياتهم واختلاف المعتقدات. فنرى ترابط العائلات الأفغانية وقدسية مسابقة الطائرات الورقية وخبز النان، تكاد أن تشعر بأنك تتجول في أزقة كابول! تجد أيضًا بضع مفرداتٍ أفغانية موجودة كما هي تُفهم من السياق.

أيضا أحد الفروقات الجميلة هي تناقض شخصية أمير وحسن، فنجد أمير في بعض المواقف يتسم بالأنانية وحب الذات والغيرة. بينما على الجانب الآخر حسن متفانٍ في اخلاصه لأمير ومنكر لذاته، سيفعل أي شيء في سبيل اسعاد صديقه. تناقض هذه الشخصيتان رغم صداقتهما تجعل الفروقات في شخصيتهما تبرز بشكل واضح. فنجد أمير يصف بعض من اختلافهما قائلًا:

“كيف يمكن أن أكون كتابًا مفتوحًا هكذا أمامه، بينما في نصف الأوقات لا يكون لدي أدنى فكرة عما يدور في رأسه. كنت أنا من يذهب إلى المدرسة، من يعرف القراءة والكتابة، كنت أنا الذكي. لم يكن بمقدور حسن أن يقرأ كتاب النصوص للصف الأول، لكنه كثيرًا ما يقرأني. كان ذلك مقلقًا إلى حدٍّ ما، لكن من المريح أيضًا أن تجد شخصًا يعرف تمامًا ما تحتاجه.”

ولكن لا يقع كامل اللوم على أمير في بعض سماته الأنانية، نلوم الحب المشروط الذي كان أمير يحاول الحصول عليه من والده، وهذا غالبًا ما جعله يتوق لفعل أي شيء ليتلقى مديحًا أو حتى نظرة اعجاب من والده، وما زاد الأمر سوء هو أن والده كان يصعب جدًا ارضاؤه. كان والده لا يبذل حتى أدنى مجهود لكبت اشمئزازه من ابنه عندما يكون  أمير حساسًا ويعبّر عن مشاعره. كان أبًا أفغانيًا ضخم البُنية يريد أن يربّي ابنه متبعًا الصورة النمطية لرجال أفغانستان، ربما ما زاد الأمر سوء هو غياب دفء الأم وحنانها الذي يوازن قسوة أبيه. حتى وصفه أمير قائلًا:

“كانت المشكلة بالطبع، أن بابا كان يرى العالم بالأسود والأبيض. وكان هو من يقرر ما الأسود وما الأبيض. لا يمكنك أن تحب شخصًا يعيش بتلك الطريقة دون أن تخافه، بل من دون حتى أن تكرهه قليلًا”

ولذا نتفهم ما صار أمير إليه خاصة في “مشهد الخيانة” الذي ستصادفونه، وستكرهون أمير جدًا بسببه. ونرى بعدها شعور الذنب والألم الذي سكن أمير وكيف أن هذه الخيانة أحدثت شرخًا في علاقته مع حسن ونرى كيف سيحاول التعويض عن هذا الذنب إلى آخر صفحة وهذا الحدث هو لُب الرواية وحبكتها. فيصف ألمه وندمه ببضع جمل مثل:

“وتساءلت كيف ومتى أصبحت قادرًا على إحداث ذلك القدر من الألم.”

“لقد أحببته في تلك اللحظة، أحببته أكثر مما أحببت أي شخص، وأردت أن أخبرهم جميعًا بأنني كنت أنا الأفعى بين الأغصان، الوحش في البحيرة.”

ولكن نجد عندها شخصية رحيم خان وهو صديق والد أمير، الذي عوّض ولو القليل من قسوة والد أمير. فنجده حنونًا مع أمير ويقدّر كتاباته التي يشاركها معه وحبه للأدب، كان والده لا يعطي كتاباته بال لأنه يريد أن يكون ابنه “فتى” يفعل ما يفعله “الفتيان” من هوايات مثل كرة القدم وما إلى ذلك، التي لم يكون أمير جيدًا بها. على عكس إلمامه بالأدب وحبه للتأليف، الذي كان يتشابه باهتمامات والدته المتوفية.

بالنسبة لي لا أحب قراءة كتب التاريخ أو السياسة ذات السرد الرتيب والثقيل والمباشر، أفضّل معرفة تاريخ دولةٍ ما أو بعض المعلومات السياسية من خلال رواية تحصل أحداثها خلال تلك الحقبة الزمنية، عندها أجدني أفهم السياق بشكل أكبر عندما تُخلق شخصيةٍ ما من قِبل الراوي في تلك الحقبة فيُسلّط الضوء على حياتها. ولذا رواية عداء الطائرة الورقية ورواية ألف شمس ساطعة لنفس الكاتب الأفغاني كانا أفضل خيار لخوض تاريخ أفغانستان، وكأنني عاصرته! بسردٍ أكثر شاعرية وإنسانية وبعين سُكّانها، وليس فقط سرد للحقائق كما تفعل معظم الكتب.

الأغلب كان يجد أنها رواية تقليدية بها بداية وحبكة ومشكلة وحل للمشكلة ونهاية، ويحضر فيها ترابط الأحداث في البداية مع أحداث النهاية، والصدف التي تزلزل من واقعية الرواية. ولكنني أجد في بساطة هذا التسلسل في الأحداث والربط موهبة عظيمة! إذ أنني بنفسي في خضم عملية تأليف رواية وأجد أنه من الصعب جدًا جعل الرواية سلسة في تعاقب الأحداث بحيث أن يشعر الكاتب أنه مُلم بكل التفاصيل التي ساهمت بنقل حدث ما إلى الحدث التالي. وبالنسبة للصدف التي سترونها في الكتاب أجد أنه ليس من الضروري أن تكون روايةٍ ما بقدر هائل من الواقعية، فلمسات مثل هذه هي من تعطي الكاتب رونقًا أسطع يميزه عن غيره، أجد أنه وبالرغم من هذه الصدف الغير واقعية كانت الرواية واقعية تمامًا وبكل شعور فيها.

أخيرًا، أقيّم هذا الكتاب 5\5، وبالنسبة لعنوان المقالة ستدركون معناه وتشعرون بأوج المشاعر التي ستداهمكم عند قراءة الرواية. قراءة ممتعة يا رفاق!

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *