عندما قرات رواية شجرتي شجرة البرتقال الرائعة اجتاحتني مشاعر جياشة، فرؤية الحياة بمنظور طفلٍ صغير غمرتني بكل أنواع المشاعر التي بإمكانكم تصورها. هذه الرواية بإمكانها إعادتكم أطفالًا مرة أخرى، بكيت مع زيزا وعشت فقره وفقر عائلته، بكيت معه عندما كان يُعاقب ويُضرب بلا مبرر، أحببت معه الغصن الطري لشجرة البرتقال، تحملت معه مسؤوليات تراكمت فوق كتفه الصغير الذي ما زال في طور نموه، حلمت معه وغنيت ورقصت، رأيت الحياة بمنظوره البريء المليء بالفضول والدهشة. زيزا طفل الخمس سنوات، كان قادرًا على أن ينتشلني من ريعان شبابي إلى نعومة أظافري.
لنرى إذًا، إن كان بإمكاني اقناعكم باقتناء رواية شجرتي شجرة البرتقال الرائعة!
أولًا كاتب الرواية البرازيلي المبهر خوسيه ماورو، وُلد فقيرًا للغاية، مما جعل عائلته تطلب من الأقارب أن يقوموا برعايته، وكان عندها طفلًا صغيرًا. حتى نلاحظ بأن بطل الرواية أيضًا يسمى خوسيه -ولكن يُلقب بزيزا- وهذا الطفل أيضًا برازيلي. عندها تساءلت، هل تعمّد الكاتب استخدام زيزا كإسقاط لمعاناته كطفل؟
خصوصًا بأن الجزء الثاني من الكتاب يُناقش تبني عائلة أخرى لزيزا، مثلما حدث للكاتب تمامًا. ولكن بعدها بفترة اكتشفت أن الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية لطفولة الكاتب، ولهذا نرى في بداية الكتاب اهداء لشخصيات تملك ذات الأسماء في الرواية. وهذا ما جعلني أنزعج وأحزن أكثر، أن أدرك أن أحداث رواية ظننت أنها خيالية من شدة مأساتها، حدثت بالفعل للكاتب. هذا سبب كافٍ جدًا لتفسير مدى براعة خوسيه في وصف مشاهد الفقر بمأساوية يتعصر القلب ألمًا عند قراءتها. وأثق بأنه لن يكتب ببراعتها أحد لم يعش الفقر بنفسه!
على سبيل المثال عندما حلّ عيد الميلاد وكان زيزا متلهفًا للغاية للحصول على هدية، سرعان ما استيقظ من نومه ذهب ليرى إن كان هناك هدية، لم يجد، فقال:
“اندلع بداخلي مزيج من الكره والثورة والحزن. ودون أن أتمكن من السيطرة على نفسي صرخت: “ما أشقى أن يكون للمرء أبُ فقير…” حولت نظري عن صندل التنس، فرأيت قدمين تنتعلان بابوجين تتوقفان أمامي. كان أبي واقفًا ينظر إلينا، وعيناه واسعتان من الحزن. بدا وكأن عينيه أصبحتا كبيرتين جدًا، كانتا كبيرتين حتى ليمكن القول أنهما قادرتان على أن تملآن شاشة سينما. كان هناك ألمُ بالغ، ألم فظيع جدًا في عينيه إلى درجة أنه لو رغب في البكاء لما استطاع ذلك. ظل ينظر إلينا دقيقة امتدت بلا نهاية، ثمّ ودون أن يقول شيئًا، مرّ من أمامنا. كنا محطّمين، عاجزين عن التفوه بأيّ كلمة.”
ووصف الكاتب مشهد زيزا المؤلم عندما شعر بالذنب وكان يحاول أن يجمع مالًا كفاية ليشتري هدية لوالده تعبر عن أسفه قائلًا:
“كان الليل قد حلّ. وكانت هناك لمبة فقط مضاءة في المطبخ. لقد خرج الجميع، لكن بابا كان جالسًا أمام الطاولة وهو ينظر بثبات إلى الحائط. كان متكئًّا على الطاولة ويده تسند ذقنه.
-بابا
-ماذا هناك، يا صغيري؟
لم يحمل صوته أيّة ضغينة.
-أين ذهبت طيلة النهار؟
أريته صندوقي الخاص بمسح الأحذية.
وضعت الصندوق على الأرض وأدخلت يدي في جيبي كي أُخرج العلبة.
-أنظر بابا، اشتريت لك شيئًا جميلًا جدًا.
ابتسم، مدركًا كلّ ما كلفني إياه ذلك.
-هل يعجبك؟ كان الأجمل!
فتح الحزمة ونظر إلى التبغ مبتسمًا، لكن بدون أن يتمكن من قول أي شيء.
-دخّن واحدة بابا!
توجهت إلى الفرن لأخذ عود ثقاب، أشعلته وقربته من السيجارة التي وضعها في فمه.
ابتعدت لكي أشهد أول نفس. عندها حدث شيء بداخلي، ألقيت بالكبريت على الأرض. شعرت بأنني أختنق.
انفجرت في الداخل. انفجرت من ذلك الألم الكبير جدًّا الذي كنت أجتره طيلة اليوم.
نظرت إلى بابا، وجهه الملتحي، إلى عينيه.
تمكنت فقط من قول:
-بابا…بابا…
رفعت يدي وداعبت وجهه. مررت أصابعي بلطفٍ فوق عينيه مُحاولًا إعادتهما إلى مكانهما، كي لا تكونا كبيرتين إلى تلك الدرجة. كنت خائفًا، إن لم أفعل هذا، فإن عينيه ستتبعانني طيلة الحياة.”
وإلى بقية المشهد الذي ستجدونه في الرواية، المشهد المليء بالألم وتحمل المسؤولية والنضج الذي وبكل تأكيد لم يكن على طفل الخمس سنوات تحمّله، ولكن هذا ما تفعله ظروف الفقر، الأطفال والبالغين يتجرعون المرارة على حدّ سواء.
وصف الكاتب كان عبقريًا بكل التفاصيل ابتداءً من المصباح الوحيد في المطبخ الذي جعلني أتصور المشهد ببراعة، إلى عينا أبيه الكبيرتين من الحزن، ومسْح زيزا بيديه عليهما، إلى الهدية البسيطة -علبة سجائر- ولكن المشهد صوّرها بشاعرية وكأنها أثمن ممتلكاتهم!
إذًا كما نرى تُحكى لنا الأحداث بلسان الطفل زيزا، فنرى مجريات الحياة بمنظوره كطفل. زيزا يعيش في عائلة فقيرة، والده بلا عمل وأمه تعمل في مصنع لساعات طويلة. حنان واهتمام الوالدين غائب تمامًا في الرواية -اللهم مشهد أو مشهدين بسيطة- ولكن نلحظ أن الاخوة يعتنوا ببعضهم البعض، فالأكبر يعتني بأخيه الذي يصغره، فنرى مثلًا تعلّق زيزا بأخيه الصغير لويس، رغم أن زيزا بالخامسة من عمره، نرى اعتنائه بلويس وتحمل مسؤوليته يجسد تمامًا اعتناء البالغ بطفل ما. ونرى توتوكا الذي يكبُر زيزا بقليل واعتنائه بزيزا وفرق الشخصيات بينهم. وثم الشخصية الأهم في حياة زيزا تظهر، الرجل البرتغالي بورتوجا. الذي يعوضه عن حنان واهتمام الأب المفقود. فنرى حب زيزا لبورتوجا وتعلقه الشديد به يتجلى في مواضع كثيرة.
مثل عندما كان زيزا يسأله عن معنى الرعيّة،
“-ماهي الرعيّة؟
-إنه الشعب الذي يمتثل لأوامر الملك أو الملكة.
-هل أستطيع أن أكون أنا من رعيتك؟
وبعدها وصف زيزا ضحكة بورتوجا قائلًا:
أطلق ضحكة كلها فرح حرّكت الأعشاب الصغيرة.”
ونرى في مشهد آخر تعلق زيزا ببورتجا عندما عبّر عن حزنه قائلًا،
“لا نستطيع اختيار أبينا قبل ولادتنا، لكن لو كان بإمكاني لاخترتك أنت”
وعندما عبّر زيزا عن شعوره بالأمان قرب بورتوجا قائلًا،
“-أريد أن أبقى دائمًا بالقرب منك، هل تعلم؟
-لماذا؟
-لأنك الإنسان الأكثر طيبة في العالم، لا اُوبخ عندما حين أكون قربك. وأشعر بأن شعاعًا من الشمس يغمر قلبي بالسعادة.”
والكثير من المشاهد والحوارات الأخرى التي تجسّد حب زيزا للبرتغالي، وتعطشه الشديد لحنان الوالدين. فكما أردفنا مسبقًا عنصر الوالدين كان غائبًا في حياة زيزا، وما أرهقني قراءته للغاية هو غضبهم وتفريغ سخطهم عليه. فنرى في مواضع كثيرة وصف زيزا كعبء وكأنه من أوجد نفسه بينهم، وكأنه كان له الخيار في تواجده بهذا العالم وهذه الظروف!
فنرى مشاهد تظهر فيها غضب أفراد العائلة الأكبر بدون أن يشرحوا ما كان خطأ زيزا، فينهالون عليه بالضرب الغير مبرر:
فمثلًا عندما كان يصنع زيزا كرة من الورق وكانت أخته للتو عائدة إلى المنزل بمزاجٍ سيء، طلبت منه أن يأتي لتناول الطعام، فرفض نظرًا لاندماجه بالنشاط الذي يفعله، ألّحت عليه أن يأتي ولكنه كأي طفل بالخامسة، اللعب كان أهم، عندها مزقت كرته إلى أن أصبحت قصاصات من الورق. فقال زيزا معبرًا عن غضبه:
“-هل تعلمين من أنت؟ أنت ق…!
ألصقت وجهها قبالة وجهي وكانت عيناها تقدحان شررًا
-كرر هذا، ان كنت تمتلك الشجاعة!
قسّمت المقاطع اللفظية
-ق…!
التقطت الحزام الجلدي من المنضدة وشرعت تضربني من دون شفقة.”
وبعدها صوّر الكاتب المشهد العنيف بمشاعره المضطربة بدقة تُمكنك من الشعور بذات المشاعر. وكيف أن زيزا اعتقد أن مفهوم الشتيمة هو أنها كلمات للتعبير عن الغضب، وببراءة الطفل ذو الخمس سنوات لم يعلم معنى الشتائم التي يتفوه بها، جُلّ ما كان يفعله هو التعبير عن استيائه وغضبه مما حصل! اعتقد ان البالغين عندما يتفوهوا بكلماتٍ مثل هذه، كانت ببساطة طريقتهم في التعبير عن الغضب. ولكن الضربات كانت تنهال عليه بلا أي تفسير.
مثل مشهد زيزا مع أبيه عندما غنّى له أغنية راجيًا أن يسعده بها فيقول زيزا،
“كنت جالسًا على عتبة الباب أعد السحليات على الحائط، وأدرت رأسي لأنظر إلى أبي. لم يسبق لي أن رأيته بمثل ذلك الحزن منذ صبيحة عيد الميلاد.
يجب أن أفعل شيئًا ما لأجله. ماذا لو غنيت؟ أستطيع أن أغني بمنتهى اللطف، سيسليه هذا بكل تأكيد في وحدته. استعرضت سجل الأغاني التي أحفظها وتذكرت آخر أغنية حفظتها مع سنيور أريووفالدو، التانغو. كان التانغو من أجمل الأشياء التي كنت أعرفها.
بدأت بصوتٍ خافت:
أريد امرأة عارية تمامًا،
عارية تمامًا أريد الحصول عليها…
في المساء على ضوء القمر.
أريد جسد امرأة.
-زيزا!
-نعم بابا، نهضت باندفاع. لا شك أن أبي قد أحب التانغو ويريدني أن آتي وأغني له عن قرب.
-ما الذي تغنّيه؟
عاودت الغناء.
-أريد امرأة عارية تمامًا…
اكتست عيناه ببريق مشوش وكأنه قد أصبح مجنونًا
-أعد هذه الأغنية
-انها أغنية تانغو شائعة. أريد جسد امرأة عارية تمامًا…
هَوت صفعة على خدي
-غنّ ثانية
-أريد امرأة عارية تمامًا…
صفعة أخرى، وأخرى وأخرى إضافية. انفجرت الدموع من عيني على الرغم مني.
-هيا واصل الغناء!
-أريد جسد امرأة عارية تمامًا…
لم يعد بإمكاني تحريك شفتيّ، كنت أترنح، عيناي تنفتحان وتنغلقان تحت وقع الصفعات. لم أعرف هل عليّ أن أتوقف أو أن أمتثل لأوامره!”
آه، كنت أقرأ هذا المشهد وعيناي مليئة بالدموع. زيزا أحبّ فقط لحن الأغنية ووقعها الموسيقي على الأذن، لم يفقه معانيها! وعندما وُبّخ، لم يعلم سبب التوبيخ الذي بالنسبة للبالغين كان واضحًا. فهنا نرى أن عائلته لم تجيد فهم لغة الأطفال ونظرتهم للأمور، وكانت تعاملهم كبالغين ليس إلا. ليس هذا فقط ولكن كان يتلقى كلماتٍ مثل، أنت شيطان ما كان يجب أن تولد، إلى أن قام بتصديقها! فنرى تركيز الكاتب في الرواية على جعل زيزا يتأذى ويحزن أكثر من الكلمات والمعاملة التي يتلقاها من الناس من حوله، أكثر بكثير من حزنه على فقرهم!
قولوا لي أنتم، ما المهم بالنسبة لطفل ذو خمس سنوات أكثر من تلقي الحب والرعاية والشعور بالأمان؟! وهذا يجعلني أتصور كيف ستنقلب أحداث الرواية وتختفي معاناة زيزا، فقط عندما نستبدل عائلة زيزا بعائلة بذات درجة الفقر، ولكنها مُحبة وتعامله برحمة ولطف. أتصور أن زيزا سيعيش مثل أي طفلٍ طبيعي آخر، ما رأيكم أنتم؟
سأترك بقية المشاهد والتفاصيل لكم لتعيشوا طفولة الكاتب معه، وبالتأكيد لن أذكر المشاهد في نهاية الرواية وكيف ختم الروائي هذا الجزء. ولكن ما سأذكره هو اعجابي الشديد بقدرة الكاتب على أن يعود ويتجسد الطفل خوسيه الذي كان عليه، ليقدم لنا هذه القطعة الأدبية الحزينة. كيف عاد معه عقله وروحه وقلبه للطفل ذو الخمس سنوات، كيف عاد لزيزا وقدم لنا حياته كشخص منفصل عنه. خلقه من جديد كطفل لا صلة له به، تعاطف معه، أظهر تميزه وبراعته في القراءة والتحدث بعمر صغير، أعاد احياء مشاعر الغضب والحب والدهشة والفضول والحزن مرة تلو الأخرى، ليرينا من هو خوسيه كطفل، من هو زيزا…
أخيرًا، أقيّم الكتاب 5/5. وكالعادة، بما يخص العنوان، ستجدون الإجابة بين السطور. قراءة ممتعة يا رفاق!