سأحاول أن أسرد أفكاري تجاه هذا الموضوع الذي يلامس كل فرد فينا بكل سلاسة وبلا أي رسمية في ترتيب الأفكار. أريدك أن تفكّر أولًا، متى كانت آخر مرة سمحت بها لنفسك الشعور بالملل؟ العالم الآن عدو الملل، من الصعب حاليًا الشعور بالملل مقارنة بسهولة الشعور “بمتعة لحظية”. لماذا يجب علينا أن نترك شعور الملل يحتضننا ويعيدنا إلى ذاتنا بين فترة وأخرى؟ ولماذا يجب علينا الإنصات إليه وعدم إسكاته وتركه ينساب بخفّة في أوقاتنا؟

نحن نعيش الان بين ملايين وملايين من المشتتات حيث أصبح الكل يشك بإصابته بنقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD). أصبح حتى من الصعب تشخيص الفرد لنفسه ما إذا كان مصاب بلعنة تمنعه عن التركيز، أو أنه ببساطة هذا حال العالم اليوم؟ سريع جدًا يومض بمئات الألوان ويغني بجميع الألحان في ثانية واحدة؟ ولذا وجب علينا أن نخصص وقت خلال أيامنا للشعور بالملل وكأنه واجب علينا، لأنه واجب حقيقةً! وإليكم لماذا؛

منصات التواصل الاجتماعي كفيلة تمامًا بأن تُدخل عقلك بحالة تحفيز مُفرطة! دعوني آخذكم برحلة داخل ذواتكم أثناء التمرير (Scrolling) بين مختلف المقاطع والصور، تبدأ بضحك هستيري مرةً على مقطع لا تتجاوز مدته الثواني ثم تمرر للمقطع التالي فتُصاب بالرعب بسبب شيء مخيف سمعته وهو أيضًا لا يتجاوز الثواني، يتبعه تمرير آخر فتبكي وتتألم على مشاعر شخصٍ يوثّق حالته عند فقد عزيز. في دقيقة واحدة فقط، ضحكت ورُعبت وبكيت! من المستحيل أن يحدث هذا التبدّل السريع بالمشاعر في الحياة اليومية الرتيبة، والمضحك أن الرتابة أصبحت رفاهية برأيي الآن!

يُرعبني، يٌرعبني جدًا استيعاب هذه الحقيقة من معظم التطبيقات التي تحتوي على ميزة المقاطع السريعة، حقيقة أنك لا تملك أيًّا من مشاعرك وأفكارك فتتعرض لمختلف الأفكار والمشاعر التي تُخزّن بعقلك الباطن لتؤثر عليك سلبًا. دعك من الوقت المهدر الذي ستُحاسب عليه، فأنت في ريعان شبابك وبكامل صحتك وفي أوج ازدهارك يحزنني أن كل هذه الطاقة والمشاعر تُستنزف في غير محلها، فتجد نفسك في آخر اليوم مُرهق وبسبب ماذا؟ لا شيء يُذكر! وتمر أيامك على هذا المنوال…

أكتب الان هذه المقالة ولا يوجد في هاتفي إلا (YouTube) و(WhatsApp) لأنني قررت أن أعيد قوة انتباهي و تركيزي قبل أن تبدأ السنة الدراسية الجديدة التي تتطلب عادةً قوة تركيز عالية وفترة انتباه طويلة، فقمت بحذف التطبيقات. وقبل هذا كانت تطبيقاتي تتمحور حول (Twitter, YouTube, Snapchat, WhatsApp) لم يكن في هاتفي مكانًا ل (Instagram) أو (TikTok) ولكن قبل ثلاثة أسابيع تقريبًا أردت البحث عن حسابٍ ما في (Instagram) ودخلت بعدها في دوامة ال(Reels) أو المقاطع القصيرة الخاصة بالتطبيق وأحببتها جدًا ثم لاحظت أني أصبحت أكثر تعلقًا بهاتفي، فعادةً ما أشغل به وقت فراغي هو مشاهدة حلقة طويلة من مسلسلٍ ما ينصب كامل تركيزي عليه، أو مقطع يوتيوب ذو الثلاثين دقيقة، رغم أنها ليست أفضل طريقة لاستغلال وقت فراغي ولكن أجد أنها لا تؤثر على تركيزي بقدر ما يؤثر التنقل بين التطبيقات ومقاطعها القصيرة. على ما يبدو أنني سأعيد حساباتي بما يخص “الانستا”!

نعود لتحفيز الدماغ الغير طبيعي “المبالغ فيه”، لا يحدث هذا التحفيز إلا عن طريق العيش في نسخة مبالغ بها عن العالم وهذه النسخة هي ذاتها العالم الرقمي وهي الطعام الغير صحي وهي الأفلام الإباحية وهي المخدرات. وعندما أذكر أمثلة كبيرة مثل الأفلام الإباحية والمخدرات وأقارنها بإدمان وسائل التواصل الاجتماعي -ترا ما أمزح وما أبالغ، المقارنة بمحلها!- لأن مدمن المخدرات لا يستطيع تحمل جرعة الدوبامين الطبيعية للإنسان الطبيعي لأنه قام بتجربة أضعافها، فالجرعة المعتادة لا تجعله يشعر بالسعادة. مدمن الأفلام الإباحية لا يُشبع جنسيًا من العلاقة الجنسية الصحية الطبيعية ويرى أن مشاهدة هذه الأفلام تعطيه متعة تشبعه أكثر من واقعه وهذا مخيف! وصاحبنا الذي اعتاد جسده على نظام غذائي غير صحي سيجد أن السلطة بلا طعم وأن الشاي يحتاج كيس سكر لأن لسانه فقد قوة حاسة التذوق فأصبح لا يشعر بالنكهة إلا بعد مضاعفتها. وصاحبنا الآخر الذي يقضي ساعات طويلة يمرر من مقطع إلى آخر لن يستطيع أن يجد الحافز في قراءة بضع صفحات من القرآن أو الجلوس مع أفكاره لمدة عشر دقائق لأنه فقد القدرة على التركيز بشيء واحد لمدة طويلة. وهنا نعود لحقيقة لماذا كانوا الصحابة رضي الله عنهم سريعي الحفظ للقرآن والأحاديث؟ هذا لأن عقولهم وأيامهم لم تكن مشبّعة بتفاهات ومعلومات ليس لها داعٍ ومشاعر لا تمت للواقع بصلة! بل كانوا رضي الله عنهم ذو عقول صافية متزنة تسع كل مفيد وأيامهم بسيطة ذات هدف، ينامون وهم يشعرون بالإنجاز تجاه تحقيق مبتغاهم لهذا اليوم.

لذا عندما تصبح واعيًا بم تستهلكه خلال اليوم من المحتوى الرقمي وتقلل قدر الإمكان بالتدريج تعرضّك له؛ ستبدأ بالشعور بمتعة الحياة اليومية الرتيبة! تستشعر السعادة البسيطة عند صنع كوب قهوة والتلذذ بها، تستشعر صلواتك وتنغمس بها بدون استعجال، تستشعر جمالية السماء وتتنفس بعمق، بعمق غير معتاد! والأهم استعادة تركيزك وفترة انتباهك فترتفع انتاجيتك! العاديّ لن يصبح عاديًّا بعينيك مرة أخرى، لأن عقلك بعد التقليل من التحفيز المبالغ عاد لاتزانه الطبيعي فأصبح يرى السعادة في هذه التفاصيل ويفرز قدرًا من الهرمونات القادرة بجرعتها الطبيعية على اسعادك.

عندها يمكنك الجلوس بصمت مع عقلك وأفكارك، فعندما تراقب أفكارك تستطيع أن تحدد من أو ماذا يشغل تفكيرك ولماذا؟ أفكارك ستنساب ومن المؤكد أنها مزعجة ولكنها في نهاية المطاف خريطتك لذاتك، فعند سماع أفكارك تستطيع عندها تحديد ما يشغل عقلك أكثر من غيره ولماذا، وعندها ستعيد حساباتك في كثير من الأمور!

أنا لاحظت من فترة ليست بالقصيرة أنني أحب أن أحيط أنشطتي بخلفية صوتية، عادة ما تكون بودكاست. فعندما أطبخ أحب أن أسمع شيء ما وعندما أنظف غرفتي وحتى عندما أستحم -للأمانة لأني أطوّل أتروش- رغم أنه ليست لدي مشكلة مع الهدوء ولكن على ما يبدو أنني أستمتع أكثر بالنشاط عند إرفاق بودكاست معه، وهذا يُرجعني لفكرة أنه من الممكن أنني لم أعد أستشعر المتعة في فعل أي نشاط روتيني بدون إرفاق خلفية صوتية معه. وهذا يدعوني لمحاولة جعل الصمت والهدوء خلفيتي الموسيقية، وأصوات غسل وتقطيع الخضار وغليان الحساء سيمفونية أتغنّى بها. نحن نعيش في عالم حيث الازعاج والضجة ووجود صوت حتى لو لم نفهمه هي الحالة الطبيعية لعيش أيامنا.

في تجربة قاموا بجمع عينة من الناس وخيّروهم بين البقاء مع ذواتهم في غرفة معزولة لمدة 6 إلى 15 دقيقة أو أن يتم كهربتهم بشكل دوري خلال هذه الدقائق، المضحك أن المشاركين اختاروا أن يتم كهربتهم! على ما يبدو أن الترفيه والتحفيز يفوزان.

ما أريد أن ألّخصه في الخاتمة هو مفارقة نوعًا ما ولكن، استغل ساعات يومك وأيضًا تذكر أنك ليس مضطر لأن تفعل شيء طيلة ساعات يومك! المقصد هو أن تركّز على حياتك وتسخر وقتك في تطويرها بدلًا من الانشغال في حيوات الآخرين، أن تستغل كل دقيقة بطريقة صحية فلا تجلد ذاتك عندما تأخذ 20 دقيقة مثلًا في الجلوس مع نفسك وسماع أفكارك وإعادة تقييم حياتك فهذا ليس تضييع للوقت أبدًا. درّب نفسك على الملل وعلى ممارسة الأنشطة اليومية بلا محفزات صناعية! أتمنى أخيرًا أن نعي بأن الوقت الضائع من أيامنا ليس مزحة! ليس من الطبيعي أن نستيقظ من النوم منتظرين متى ننام مرة أخرى فقط لأننا مستنزفين صحيًا سواءً نفسيًا أو جسديًا! حدد أهداف ومهارات تريد أن تكتسبها وتحققها ودعها تعيش في أيامك -وصير زي أبو منصور-.

أبو منصور هو شخصية في قصة ذكرها نايف حمدان في بودكاست يصير خير ولامستني جدًا، قال: “خضت حوار مع أبو منصور البرّاك و يصفه بأنه عالم نبات وشخص مليء بالشغف رغم كبر عمره، حياته قضاها بين النباتات في البر وقام بتحديد اكثر من 5500 إحداثية في المملكة تكفّل بتسجيلها واكتشافها. سأله نايف: ما سئمت؟ قال أبو منصور: أنا ما أبغا الشمس تغيب حتى!”

 أتمنى اننا جميعًا نمتلئ بشغف وإصرار أبو منصور بحيث أننا نرى الحياة بعيونه المتلألئة العطشة لكل جديد، والباكية عندما الشمس تغيب. وبكذا أقولكم كونوا بخير!

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *