هذا الموضوع هو من ضمن المواضيع التي نالت على اهتمامي بفترةٍ ما، وعند تفكيري مؤخرًا عن موضوع لمقالتي الجديدة، لاحَ أمامي أثناء تصفحي المعتاد مقطع  (TED Talk) للمتحدث  (Barry Schwartz) يقدّم به موضوع عن معضلة الاختيار (The Paradox of Choice)، واكتشفت بعدها أنه قام بتأليف كتابًا كاملًا يتناول هذا الموضوع، فقررت استعراض هذه الفكرة المثيرة للاهتمام لكم! فما هي معضلة الاختيار؟ ولماذا كثرة الخيارات لا تعني بالضرورة حرية أكبر للفرد؟

أولًا:

لنراجع كمّ الخيارات التي نتعرض إليها في بضع ساعات فقط! لنقل بأنني أريد شراء قميص أبيض بسيط جدًا، سأجد العشرات من الخيارات لنفس القميص الأبيض بنفس التصميم، فأصاب بالحيرة بلا داعٍ! ما أريد هو قميص أبيض فقط، فأجدني محاصرة بكمّ الخيارات التي يجب أن أختار منها.

 أو قررت شراء زبدة الفول السوداني مثلًا، فأجد رف شبه ممتلئ بكم الخيارات لزبدة الفول السوداني! خشنة أم ناعمة؟ عضوية أم لا؟ تحتوي على إضافات أم بدون؟ ما نوع الزيت المستخدم لتصنيعها؟ كمية السكر الموجودة بها؟

ماذا عن إختيار قهوة من لائحة المشروبات؟ وحتى إن تم اختيار القهوة بعد حيرة، ما زلت ستتلقى أسئلة كالتالي: هل تريدها ساخنة أم باردة؟ هل تريد إضافات؟ والإضافات اختيار آخر! بندق، كراميل، فانيلا… ماذا عن الحليب؟ حليب بقري، حليب لوز، حليب جوز الهند… كيف تحب السكر في قهوتك؟

مثال آخر، من أخلاقيات المهن الصحية التالي: منح المريض الاستقلالية التامة بمعنى أنه يتم ضمان حق المريض باختيار أي قرار يتعلق بحالته الصحية بحرية تامة! ويجب على المتكفل بحالته اطلاعُه على جميع خيارات العلاج المتوفرة له.

 لنتصور المشهد التالي، يسأل المريض الطبيب بعد تشخيص حالته: ماذا علي أن أفعل الآن؟ يجيب الطبيب: خطة العلاج “أ” هي كالتالي، وخطة العلاج “ب” و “ج” كالتالي، أي خطة علاج تريد أن تختار؟ فيعيد المريض السؤال: ما رأيك أي خطة يجب أن أختار؟ يجيب الطبيب قائلًا: كما أخبرتك هناك الخطة كذا وهذه مخاطرها ومنافعها، والخطة الأخرى لديها هذه المخاطر والمنافع، ما الأنسب لك؟ يسأل المريض مرة أخرى نظرًا أن الطبيب لديه خبرة أكبر بمجاله: إذا كنت مكاني ماذا سوف تختار؟ يجيب الطبيب: لكني لست مكانك…

نجد أنه حتى أصبح من الممكن تغيير جنسك لجنس آخر، من ذكرٍ لأنثى والعكس! الخيار أصبح متّاح حتى بمَ يتعلق بأيّ جنسٍ تريد أن تكون! ولا ننسى عمليات التجميل وإلخ…

قِس هذا المشهد على كل منتج تريد شراءه، تتعرض لكم هائل من الخيارات وعندما أخيرًا تختار الخيار الذي اعتقدت أنه مناسبًا، تعود لتفكر في إحتمالية أن الخيار الآخر كان أفضل من السابق، وهكذا دواليك… فلا ترضى أبدًا بم اخترت لأن الخيارات تكاد لا تنتهي!

أعتقد أن الفكرة بدأت تتضح لكم، الآن ماهي معضلة الاختيار؟ هي شعور الفرد بشيء أشبه بالحصار عند تعرّضه لموقف يتطلّب منه الإختيار من عدة خيارات، فعندها وعلى الرغم من كثرة الخيارات يصبح الفرد عاجزًا عن الإختيار. هنا تقع المعضلة، عجزه عن الاختيار أو صعوبة الإختيار على الرغم من توفر العديد من الخيارات!

الافتراض السائد

نحن جميعًا شبه مؤمنين بأنه لتحسين حال الفرد يجب إعطاؤه المزيد من الحرية الفردية، وليتم هذا يجب زيادة الخيارات، بالتالي ينتج من هذه المعادلة رفاهية أكبر للفرد! هذا الإفتراض السائد في المجتمعات الغربية والصناعية، ورأيي هو أنه ينطبق علينا هذه الأيام كذلك.

 ونحن بالعادة عند زيارة أي مكان نفضّل أن يحتوي هذا المكان على خيارات عديدة، فكلما زادت الخيارات المعروضة لنا كلمّا زاد إقتناعنا بأنه أفضل من غيره! ولكن ماذا إن قلت لكم أننا نُرهَق أكثر عندما نستمر بالإختيار من بين الآلاف من الخيارات يوميًا؟

مساوئ كثرة الخيارات

  • العجز عن الإختيار تمامًا أو ما يشبه الشلل التحليلي (Analysis Paralysis): فيفقد الفرد القدرة على اتخاذ قرار ما أو خيارٍ ما بسبب الإفراط بالتحليل! وحتى لو تم الإختيار ستقل نسبة الرضا عمّ تم اختياره، مقارنةً بنسبة الرضا عند الإختيار من خيارات قليلة جدًا.
  • انعدام عيش اللحظة: فمثلًا عند اختيار القيام بعملٍ ما، يدفعنا ذلك للتفكير بكمّ الأعمال الأخرى التي كان بإمكاننا القيام بها بدلًا من المَهمة المُختارة. فبسبب كثرة الخيارات، سُرق منّا الانغماس بتركيز ومتعة بما نفعله، فلا نرضى بمَ قمنا باختياره لأن العمل الآخر كان من الممكن أن يكون أهم أو أمتع أو أسرع! وهكذا دواليك، دوامة لا تنتهي…
  • القلق والاكتئاب: على الرغم من أن العالم تقريبًا هو المسؤول عن كثرة الخيارات لكن الواقع هو أننا كأفراد عندما نختار خيارًا ما من ضمن العديد من الخيارات وهذا الخيار لم يكن موفّقًا، نصاب بخيبة أمل ونلوم ذواتنا بحجّة أنه وعلى الرغم من كثرة الإختيارات، وقع اختيارنا على الخيار الغير مناسب لنا. فبعض المصابين بالقلق والاكتئاب كان السبب في إصابتهم هو مرورهم بتجارب مُحبطة، على فكرة! قاموا بتصنيف هذه التجربة على أنها محبطة غالبًا بسبب معاييرهم العالية والغير واقعية أحيانًا. وهنا أقتبِس من (Barry Schwartz) “سر السعادة هو خفض التوقعات”.

أخيرًا،

شبّه (Barry Schwartz) الشخص المُحاط بخيارات قليلة ومحدودة، بالسمكة في حوضها! برأيه، أن السمكة في حوضها معدومة الحرية، ولكنها لا تتعرض لآلاف الخيارات فكل شيء واضح لها، ولو تم إلقائها في البحر الكبير يصبح فجأة كل شيء ممكن، فسيقل الرضا وتقل القناعة .

هناك مقولة مفادها: “Everything was better back when everything was worse” بمعنى، “كل شيء كان أفضل سابقًا عندما كل شيء كان أسوأ”. لأنه في تلك الأيام كان السائد هو المعاناة والجهد والكفاح وأيضًا البساطة لحدٍ كبير، توقعاتهم كانت منخفضة فأصبح من الممكن حصول مفاجآت صغيرة بسيطة خلال أيامهم تملأها بهجة وسعادة، عندها كان من السهل عليهم الشعور بالرضا والقناعة! الآن أهملنا تمامًا لحظات السعادة الصغيرة التي تملأ أيامنا، نظل نجري ونلهث عطشين وراء سراب وهمي…

بعد تقليب الفكرة برأسكم، بظنكم هل يجب أن نطالب بمزيد من الحرية؟

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *