أخط هذه الكلمات رغم علمي المسبق أنني لن أستطيع أبدًا أن أعبّر عن مشاعري الكاملة تجاه صديقة عمري وعد! ولها من اسمها نصيب، فهي من علمتني الوفاء والإخلاص خلال رحلتنا في هذه الحياة. تعلمنا من الحياة ودروسها الحُلوة والمرة معًا منذ نعومة أظافرنا، صديقتي منذ فترة الروضة إلى الان ، وأنا على وشك التخرج من الجامعة. لذا، كنا مرآة بعضنا البعض في كل تجاربنا ومغامراتنا، تُهنا واستعدنا طريقنا معًا، بكينا وضحكنا معًا، سقطنا وتألمنا معًا، دُهشنا وأحببنا معًا، فسّرنا المشاعر الغريبة وحللناها مع بعضنا البعض، نقفز من وعي لوعي أعلى معًا، كنا وما زلنا وسنبقى بإذن الله خير الرفقة لبعضنا البعض. 

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي ما زال عالق بذهني لمختلف المشاعر التي غمرتني حينها، كنت في المرحلة الابتدائية وفقدت أخي وحبيبي فهد رحمة الله عليه، وكان البيت مليئًا بحشود سوداء، أضحك مرة وأبكي مرات ولا أعلم لمَ أبكي! أين هو وما هو الموت وماذا يعني، لم أكن أفقه هذه الأمور، كنت مستلقية على الأريكة يملأني الحزن، ليس من أجل فقدانه ولكن حقيقة من أجل الجو العام الذي كان يحيط بي، ما أفهمه كان تعابير وجوه عائلتي وكيف كانت مليئة بالحزن ولكن لم أفهم الموت. ولذا عندها وعد أتت، وببساطة قالت لي: “دانة تعالي نلعب بالحوش!” وهربت معها من بين الحشود السوداء لنلعب كعادتنا في فناء المنزل. فكانت كالنور الذي انتشلني من مشاعر غريبة لم أفهمها. والتي بعدها كلما كبرت كلما استوعبت ذلك الفقد وكلما بكيت عليه أكثر. ولكن المهم أن وعد ما زالت تأتي لي في كل مرة لتقول: “دانة تعالي نلعب بالحوش!”. 

كل فقد نمر به، أصبح البروتوكول السائد لنا: “تعالي نسوي شاي ونطلع السطح!” وعندها تبدأ حوارات ليس لها أول ولا آخر. نبكي حينًا، نرضى ونطمئن حينًا آخر، نتأمل السماء ونأمل مستقبلًا مشرقًا لأحبابنا. تدفق الحوار معها سلس للغاية، أكاد أبوح لها عن كل حسنة وكل خطيئة ولا تزال تعابير وجهها نفسها، مسالمة وعيناها مليئة بالدفء لا ترمي بالأحكام علي أبدًا، بل تستمع وبهدوء. بعينيها دائمًا أرى دانة الطفلة التي لا تُلام أبدًا، لأنها ببساطة طفلة.  توجهني دائمًا بلا أي كلمة ولا حركة، أرواحنا تتناصح، وحين تتناصح الأرواح لا توجد نظرة علو أو أفضلية أبدًا بيننا.  

صديقة العائلة هي وجارتنا في البيت والروح، عائلتها عائلتي وعائلتي عائلتها، كل فرد في عائلتي يحبها، وكيف لا تُحب؟ وهي التي من خلالها فهمت تمامًا عمق صداقة رسولنا صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، بسببها عندما أقرأ مواقفهم، أفهم عمق التضحيات وعمق الاخلاص وعمق الأمان والوفاء والصدق والثقة التي كانت بينهما. كيف لا تُحب؟ وهي التي تهرع بلا تردد في مساعدة كل غريب فما بالكم بالقريب؟ دائمًا ما أراها أمامي تبتسم لطفل ما وتحييه، أو تحمل الأغراض الثقيلة عن امرأة مسنّة، أو تمسك الباب وتُبقيه مفتوحًا لمن يأتي بعدها؟ الله يُحبها، فكيف لا تُحب؟ 

ما زلت أذكر كل مغامراتنا في فناء المنزل، كيف كنا نرسم على الأوراق البيتزا، ثم نُغرق الورقة بالماء ونلصقها على الجدار، وننتظر من حرارة الشمس أن تقوم بمقام الفرن في طهي هذا الطعام، إلى أن تجف الأوراق فننادي على زبائن المطعم: ” الأكل استوى!”. أو كيف كنا نسهر بالساعات أمام البلايستيشن فقط لنتجاوز المستوى العاشر في بلاك أوبس. وبعدها نذهب للفناء ونعيد محاكاة اللعبة مرة أخرى، كيف كانت تضحي في كل مرة أن تكون هي “الزومبي” الذي يلحق بنا فقط لأنني لا أحب أن أكون “الزومبي”. كيف كنا في كل صباح اما أن أمر أنا على منزلها أو هي تمر على منزلي لنذهب مشيًا على الأقدام إلى المدرسة معًا. فتجلس مع عائلتي على سفرة الافطار وتتناول الافطار معنا قبل الذهاب للمدرسة، وعندما أمر انا على منزلها تسكب لي والدتها كوب من الحليب وترش على مريولي عطرًا كعطر وعد.  كيف كنا نتعارك في طريق العودة أحيانًا ونجزم أن لا نرى بعضنا مرة أخرى، إلى أن نستيقظ في الصباح التالي فترسلنا أمهاتنا إلى المدرسة معًا رغمًا عن أنوفنا. ما زلت أذكر هوسنا في تأليف الرقصات والغناء واستعراضها أمام والديّ ، والكثير الكثير من الذكريات التي صنعناها معًا.  

والان ما زلنا نصنع ذكرى جديدة معًا في كل مرة، ولا تختلف أبدًا عن ذكرياتنا صغارًا. ها نحن ما زلنا نعشق المرح، ما زلنا لا نفهم أنفسنا ولا نفهم البشر، وما زال حس الفكاهة بيننا وحواراتنا ليست مفهومة من قِبل الأغلب، ما زلنا أطفالًا نسأل ونتساءل، نندهش ونرى العالم بأعين فضولية، دومًا نمتلك شعورًا جديدًا، دومًا ممتنين ودومًا بسطاء، وفقط تأمل غروب الشمس أمام البحر مع مشروبٍ دافئ ، كفيل بأن يجعلنا أسعد خلق الله. ممتنة لك يا صديقة قلبي وعمري كله على مرافقتك لقلبي في كل عثرة وفي كل قفزة وفي كل نبضة. ممتنة لك، لأنك الشخص الذي أخبره كل شيء بلا تردد وأنا أعلم تمامًا بأنني بأمان. ممتنة لأنك شهدتي طفولتي ومراهقتي وعلمتني كيف أخطو خطواتي في كل تحدٍ جديد أواجهه كلما كبرت وكبرت مسؤولياتي. يا صديقي، سأحتفظ بكل عطاياك المعنوية والمادية في قلبي إلى آخر عمري، وأشحذ همتي فيها خلال مواجهتي لكل تحدي.  

إن سألني أحد لماذا تعني وعد لك الكثير، كل ما سأقوله هو،

“ولقيتُها قلبًا يضمُّ سعادتي ولقيتُها دومًا لأيامي سقَت

شطرًا يُتمِّمُ شطرَ روحي قُربهَا لا فرَّق الله القلوبَ إذا التقت”