انها الساعة الثانية عشر صباحًا، أردت النوم وإذا بالأفكار تتزاحم برأسي، فهرعت إلى مكتبي أبحث عن حاسوبي اللوحي لأكتب، وجدته فاحتضنته عائدةً إلى سريري الدافئ. وكأنني أحتضن طفلي الذي استيقظ للتو، وكأنني أحاول تهدئته وإعادته للنوم مجددًا بينما ما أريد حقًا تهدئته هو عقلي.
لا أعلم لمن أكتب الان أو ماذا سأكتب حتى، ولكن سأدع أصابعي تنقر هنا وهناك على لوحة المفاتيح وسأقوم بتحرير التدوينة في الصباح عندما أستيقظ، هذا ان كنت سأحررها حتى، فأحيانًا جمال الكتابة يكمن بعدم إعادة التفكير مليًا في تبديل الكلمات أو إعادة صياغة الأفكار خاصةً عندما نتحدث عن كتاباتٍ نابعة من الأعماق ولا نعرف من أين استلهمناها.
خائفة قليلًا، خائفة أن تمر حياتي وأنا أتطلّع إلى المستقبل في معظم الوقت بدون أن أعيش الحاضر، أن أنشغل كثيرًا ببناء مستقبلٍ من المحتمل أن لا أعيشه حتى. لذلك معظم الوقت أعيد إرجاع تركيزي على الحاضر بحُلوهِ ومُرِّه واعطائه حقه، لأن الحاضر الذي أعيشه كان مستقبلًا أتطلّع إليه في وقتٍ سابق، وعندما أخيرًا أتى، نبذته وتطلّعت إلى مستقبلًا غيره! وسيستمر الحال هكذا إلى أن أعي أنه في الحقيقة، لا أستطيع أن أمسك المستقبل بيدي ولا أستطيع أن أعيد الماضي وإن أمضيت كل حياتي أحاول. ما حقًا أستطيع فعله هو عيش الحاضر والحاضر فقط. لأن العيش في كلًّا من الماضي والمستقبل عبارة عن وهم.
بالنسبة لي أجمل كتاب قرأته يتحدث عن عيش الحاضر بصورة شاعرية وغير مباشرة كانت رواية من الأدب الياباني قرأتها مع رفيقاتي الأجمل على الإطلاق في تجمّع القراء، اسمها ملذات طوكيو. وسأشارككم بعض من اقتباساتها!
-“كان الوعاء الكبير ممتلئًا. كانت كل حبة منها تلتمع مغيّرة الجو حول خطة العمل. بدا لسينتارو وكأنه يرى كتلة من الكائنات الحية أكثر من كونها أحد المكوّنات الداخلة في تركيبة الحشوة.”
-“كان التصرف الذي قامت به توكي حيال الفاصولياء غريبًا. كانت تقرّب وجهها من الفاصولياء، تقرّب وجهها كثيرًا، تمامًا كما لو أنها تبثّ أمواجًا في كلّ حبة.”
-“نظر سينتارو خلسة إلى وجهها وتساءل إذا ما كان عليه أن يظهر حماستها نفسها لكونه يعمل معها. كان مجرد التفكير في ذلك يثبط عزيمته ويحبطه. ومع ذلك، ومن دون أن يعرف لماذا، انتهى الأمر بسينتارو إلى أن يستسلم للانبهار بمنظر الفاصولياء في القدر النحاسي. بمنظر حبات الفاصولياء التي ترتعش في الماء المغلي.”
أُغرمت تمامًا كيف أن معظم تركيز الكتاب كان عن الفاصولياء وكيفية صنع الحشوة بالصورة المثالية، ولكن ما كان يتحدّث عنه حقًا، هو الانغماس باللحظة الآنية! الانغماس بكل نشاط نفعله فنتجسده وكأنه جزء منا. وأنه هناك حتمًا علاقة طردية بين مدى انغماس حواسنا الخمس وتفكيرنا في مزاولة النشاط الذي بين أيدينا وبين احتمالية اتقانه.
عندما ينتهي يومي وكل ما قمت به هو مجرد مهام سأنعم بنتائجها مستقبلًا، أشعر بالإنجاز وأترقب كثيرًا ثمرات جهد الحاضر في المستقبل. ولكن، أشعر أيضًا بالفراغ إن لم أنجز كل مهمة بينما أنا منغمسة بها تمامًا.
فمثلًا، عندما أطبخ طعامًا صحيًا وأتناوله بغيةً أن أحافظ على صحتي ولكنني خلال مهمة الطبخ لم أكن أختار المكونات بعناية وأقوم بتقطيعها بتأني وتأمل ألوانها، ان لم أضع الخضار على المقلاة وأمتّع أذناي بالموسيقى التي تصدر منها، ولم أستنشق رائحة كل مسحوق بهارٍ أضيفه، ولم أرى تغير حجم الخضار ولونها قبل طبخها وبعده، إن لم أتذوق الطعام بكل حاسة من حواسي، عندها كل ما فعلته كان ليس حاضرًا، كان استثمارًا بالمستقبل فقط…
والاستثمار بالمستقبل مبهر بالفعل! والبشر هم المخلوقات الوحيدة التي تعي خط الزمان وتعي عواقبه الوخيمة، نحن نستطيع أن نفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل. نعي أن ما نفعله اليوم سنواجه عواقبه يومًا ما، لدينا هذا الوعي وهذا ما يفرقنا عن بقية المخلوقات، وهذا ما يجعلنا نؤمن بغيبيات مثل يوم الحساب وما إلى ذلك.
ولكن ولأننا نعي خط الزمان يجب أن نعي أننا يجب أن نمر به لا أن يمر هو بنا بدون أن نشعر. لأن خط الزمان خيط رفيع للغاية، رفيع إلى درجة أنك وبينما تحاول أن تمسكه بيدك وتمدّه طويلًا في وقت فرحك ما يلبث إلا أن يختفي من يدك بلا سابق إنذار، رفيع للغاية لأنك وبينما تحاول التملص منه في وقت حزنك يلتف حولك ويتشبك بك أكثر ليصبح من الصعب مقاومته…
النظرية النسبية في الفيزياء مبهرة، تستطيع من خلالها إدراك أن الزمن مفهوم نسبي فعلًا! فإحساسنا بالوقت ما هو إلا إحساس! مخيف، أليس كذلك؟ أبسط مثال لإثبات ذلك هو، عندما تنتظر لمدة ساعتان مثلًا وتنظر طيلة الوقت في ساعتك سيمر الوقت ببطء شديد وكأنه يعلم أنك تراقبه، ولكن عندما تكون منغمس للغاية في مزاولة نشاط تحبه، ستجد أن ساعتان مرّت وكأنها بضع دقائق!
لا أريد لحياتي أن تنقضي وأنا عالقة في شبكة من الخيوط الرفيعة بينما أحاول التملص منها، أريد أن أعيش وأنا أنسج من خيوط الزمان عالمًا يكاد أن يكون تعريف الزمن فيه “مجرد لحظة فقط” ولا تتجاوزها البتّة. هذا لا يعني أن حياتي ستنتهي بسرعة لأن الزمن مرّ بلمحة بصر، بل سيعني أنني قمت باستغلال كل ثانيةً بها بتمعن، بحيث لم أستطع بعد ذلك تحديد متى بدأت ومتى انتهيت!
على كلٍّ، أعي أن هناك الكثير ممن سيرى أن كلامي تنظيري وأننا من المستحيل أن نكون بهذه المثالية كل يوم بحيث نستطيع أن نوازن بين حاضرنا والتحضير لمستقبلنا. ولكن لنبدأ بمهمة واحدة فقط في اليوم نعطيها جلّ مشاعرنا وانتباهنا وإبداعنا وإتقاننا، وأنصح بتثبيت كاميرا تلتقط تعابير وجهك وقت مزاولة المهمة، لأنني مؤمنة بأنك لن تتعرف على هذا الشخص الذي ستراه.
لأن عيناه ستلمع للغاية، وحركته ستبدو أنيقة كرقصة مصممة بدقة، سيهمهم بكلمات غير مفهومة ولكن وبغرابة تبدو وكأنها سيمفونية خلّابة، سيجري هنا وهناك محاولًا اللحاق بتدفق أفكاره الإبداعية! سيبدو كطفل يرى العالم لأول مرة، مليء بالحياة وأكثر فضولًا مم أنت عليه. قم الآن، وحاول أن تحرر هذا الطفل من خيوط الزمن الملتفة بإحكام حوله.
لا تعليق