عندما أعتقد بأنني أخيرًا فهمت العالم والأشخاص من حولي وكيفية عيش حياتي، أجدني أعود لنقطة البداية!

ليس أنني أرى الحياة بإيجابية مطلقة ممّ سيبرر ما سأقوله الآن، ولكن أعتقد أن عودتنا لنقطة البداية سبب للاستمرار بهذه الحياة. فما أضجرها من حياة إن كان التقدم والنجاح هو كل ما يحدث معنا. سنفقد عندها لذة الفوز بعد الفشل، لذة الوليمة بعد جوعٍ قاسٍ، لذة الدفء بعد بردٍ قارس، لذة الحضن بعد وحدة مريرة، لذة الرجوع للخالق بعد الخطأ.

الأشياء تُعرف بأضدادها، فما تتنعم به أنت الآن وتعتقد أنك ستصبح سعيدًا للغاية خالي الهم بدوامه، ستجده بعد وقت فقد رونقه، واعتادت عليه عيناك، وفقد قيمته، فما يضيف لأيامك شيء. التعثّر والسقوط والرجوع للوراء بدلًا عن التقدم للأمام من أعظم النعم! لأنه فقط عندها، تستعيد رغباتنا رونقها والسبب للكفاح من أجلها.

في بعض الأحيان أرى أن معظم الأشياء ضريبة امتلاكها هو تعب ومسافة تكاد تبدو شبه مستحيلة، لأن لذة الحصول عليها عندها تغدو أضعاف مضاعفة! لا بأس باليسر، بل لابد من سلك الطريق الأيسر إن وجد، فمن لا يفضل اليسر؟ ولكن هناك أمورًا في حياتنا تكون طرقنا إليها عسيرة، ولابد من تقبل مرارتها. فالإيمان بأن الحياة جميلة بتحدياتها قد يخفف وطأة هذا الطريق الشاق، لنرى جمالًا من نوع آخر قد لا نراه بالطرق اليسيرة!

الحياة ماهي إلا عدم يقين. لا يمكن الجزم بشيء، أحيانًا حتى قانون السبب والنتيجة لا يمكن تطبيقه. الحياة لا تحب الملل والرتابة ونحن ندفع ثمن امتاعها. الغريب أننا ورغم كل ما عشناه وجابهناه وتعلمناه منها، ما زلنا نظن أن الحياة سفينةُ نحن قبطانها! وما علمنا أنه “ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ، تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ.”

ولهذا ستبقى المرونة خير رفيق لي في الحياة، تقبل الأخطاء والتعلم منها، حدوث الأمر المرجو خير وعدم حدوثه خيرة، عدم التعلق بنتائج الأمور والتركيز على الاتقان والاحسان خلال الرحلة، هذا جلّ ما أرجو. المتعة خلال الرحلة بالنسبة لي هي الهدف الأسمى، فبالنهاية مسافة الطريق طويلة وذكرياتها أدوم من ذكرى فرحة الوصول الفانية!

وفي هذا المقال أشارككم جزء من قصيدة إرادة الحياة للشاعر أبو القاسم الشابي:

إذا الشّعْبُ  يَوْمَاً  أرَادَ   الْحَيَـاةَ       فَلا  بُدَّ  أنْ  يَسْتَجِيبَ   القَـدَر

وَلا بُـدَّ  لِلَّيـْلِ أنْ  يَنْجَلِــي        وَلا  بُدَّ  للقَيْدِ  أَنْ   يَـنْكَسِـر

وَمَنْ  لَمْ  يُعَانِقْهُ  شَوْقُ  الْحَيَـاةِ        تَبَخَّـرَ  في  جَوِّهَـا   وَانْدَثَـر

فَوَيْلٌ  لِمَنْ  لَمْ   تَشُقْـهُ   الْحَيَاةُ        مِنْ   صَفْعَـةِ  العَـدَم  المُنْتَصِر

كَذلِكَ  قَالَـتْ  لِـيَ  الكَائِنَاتُ        وَحَدّثَنـي  رُوحُـهَا    المُسْتَتِر

وَدَمدَمَتِ   الرِّيحُ   بَيْنَ   الفِجَاجِ        وَفَوْقَ  الجِبَال  وَتَحْتَ   الشَّجَر

إذَا مَا  طَمَحْـتُ  إلِـى  غَـايَةٍ       رَكِبْتُ   الْمُنَى  وَنَسِيتُ   الحَذَر

وَلَمْ  أَتَجَنَّبْ  وُعُـورَ  الشِّعَـابِ       وَلا كُبَّـةَ  اللَّهَـبِ   المُسْتَعِـر

وَمَنْ  لا  يُحِبّ  صُعُودَ  الجِبَـالِ        يَعِشْ  أَبَدَ  الدَّهْرِ  بَيْنَ   الحُفَـر

فَعَجَّتْ  بِقَلْبِي   دِمَاءُ   الشَّبَـابِ        وَضَجَّتْ  بِصَدْرِي  رِيَاحٌ   أُخَر

وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ  الرُّعُودِ        وَعَزْفِ  الرِّيَاح  وَوَقْعِ  المَطَـر

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ – لَمَّا  سَأَلْتُ :       ” أَيَـا أُمُّ  هَلْ تَكْرَهِينَ  البَشَر؟”

“أُبَارِكُ  في  النَّاسِ  أَهْلَ  الطُّمُوحِ       وَمَنْ  يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ  الخَطَـر

وأَلْعَنُ  مَنْ  لا  يُمَاشِي  الزَّمَـانَ        وَيَقْنَعُ  بِالعَيْـشِ  عَيْشِ  الحَجَر

هُوَ الكَوْنُ  حَيٌّ ، يُحِـبُّ  الحَيَاةَ        وَيَحْتَقِرُ  الْمَيْتَ  مَهْمَا  كَـبُر

فَلا  الأُفْقُ  يَحْضُنُ  مَيْتَ  الطُّيُورِ        وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر

يمكنكم البحث عن القصيدة وقراءتها كاملة والتمعّن في كلماتها، فهي إحدى قصائدي المفضلة. دُمتم يا رفاق!