أقرأ لأنني بالقراءة أشدّ رحالي بلا رِحال، فمتى أردت أن أسافر أفعل، أحلّق فجأة مع عباس بن فرناس في قرطبة فأعيش الحضارة الاسلامية والأوروبية معًا، وأنعطف إلى مرسية فأرى قصر الأسقفية وأندهش بتراث مرسيّة الثقافي والتاريخي العريق وجمالها المعماري، ثم أجدني فجأة في غرناطة أتجول في ساحات قصر الحمراء، ثم في اشبيلية واحتفالاتها بينما أرقص الفلامنكو. ومن الأندلس ورواية موت صغير وثلاثية غرناطة، أنتقل للبرازيل فأراها بعين زيزا بطل رواية شجرتي شجرة البرتقال الرائعة، هذا الطفل الذي يحمل دماء سكان البرازيل الأصليين، طفل يسرق كل صباح من حديقة أحد الاثرياء زهرةً لأجل معلمته، ثم يتساءل بمنتهى البراءة: ألم يمنح الله الزهور لكل الناس؟ فكيف تكون سرقة وهي من خلق الله؟ فأعود طفلة وتعود معي دهشتي وفضولي وبراءتي، ثم أتعاطف مع زيزا وفقره. بعدها أفتح رواية مكتبة ساحة الأعشاب فأعوم بهواء جنوب فرنسا، تحديدًا أوزيس، أحلم بمنظور صاحبة مكتبة ريفية دافئة تعشق القراءة والكتب وتتغزل بها ليل نهار قائلة: 

“أحب جميع الكتب! الكتب الصغيرة جدًا المكتوبة بحركة واحدة، مثلها مثل الكبيرة التي هي ثمرة حياة بكاملها؛ والقديمة بأغلفتها الممزقة، ولكن أيضًا تلك التي خرجت لتوّها من عند الناشر، متباهية بحواشيها الحمراء الجميلة. أحب الكتب الرومانسية التي تستدرُّ الدموع، ولكني أيضًا أجد متعة عظيمة في استسلامي للمتاهات العقلية والعالمة في البحوث التي تمنحني الإحساس بأني أكثر ذكاء. أحب كتب الفن التي تُدخل إلى البيوت لوحات اللوفر أو البرادو، أو الصور الغريبة الآتية من القارات الخمس. كم واحد منّا ما كان ليعرف شيئًا عن تلك الروائع لولا وجود الكتب؟ أحب صفّ الكتب عندما تكون مرتبة في الرفوف، ننظر إليها ورؤوسنا منحنية قليلًا كأننا نُبجّلها حتى قبل أن نفتحها.”  

عندها أعيش معها رحلتها في لقاء كل زبون والغوص في شخصيته لاقتراح كتاب مناسب لذائقته. أعيش معها في نقاشات مثرية للعقل والروح بينها وبين كل فرد تلتقيه في رحلتها، حيث تصوّر لنا ناتالي مدى جمال كل فرد وتميزه، والمتعة الكامنة في سبر أغوار كلٍّ على حدة، وكأنه الشخص الوحيد المتبقي في هذا العالم المكتظ! ومن جنوب فرنسا، انتقلت إلى اليابان مع رواية ملذات طوكيو، فبأسلوب دوريان سوكيغاوا عشت تفاصيل خلّابة تحكي عن لقاء بين شخصين في مراحل مختلفة تمامًا في الحياة ولكن الغريب أن التشابه بينهما كبير. وتنشقّت عبير أشجار الكرز ورأيت أوراقها تتساقط أمامي، وكدت أتذوق فطائر الدوراياكي التي تمثّل جزء كبير من حبكة الرواية، عشت الحب والألم وتحديات الحياة مع الشاب سينتارو والجدة توكي!  

وبسرعة أنتقل إلى أفغانستان مع رواية عداء الطائرة الورقية، فأجدني أعيش أيامي بجسد أمير وحسن، صديقان أحدهم شيعي والآخر سني، أعيش حكم السوفيت وحكم طالبان، أخوض في تحديات الحياة، وشعور الذنب والأسف أتجرعه حتى آخر قطرة مع أمير. خضت في طبيعة الحياة عند الأفغان ولمست جزء من ثقافتهم وطريقة حياتهم واختلاف معتقداتهم. رأيت ترابط العائلات الأفغانية وقدسية مسابقة الطائرات الورقية وخبز النان، كدت أشعر بأني  أتجول في أزقة كابول! وجدت أيضًا بضع مفرداتٍ أفغانية موجودة كما هي تُفهم من السياق ممّ جعلتني أتخيل صوت حواراتهم. بالنسبة لي، لا أحب قراءة كتب التاريخ أو السياسة ذات السرد الرتيب والثقيل والمباشر، أفضّل معرفة تاريخ دولةٍ ما أو بعض المعلومات السياسية من خلال رواية تحصل أحداثها خلال تلك الحقبة الزمنية، عندها أجدني أفهم السياق بشكل أكبر عندما تُخلق شخصيةٍ ما من قِبل الراوي في تلك الحقبة فيُسلّط الضوء على حياتها. ولذا رواية عداء الطائرة الورقية ورواية ألف شمس ساطعة لنفس الكاتب الأفغاني خالد حُسيني، كانا أفضل خيار لخوض تاريخ أفغانستان، وكأنني عاصرته! بسردٍ أكثر شاعرية وإنسانية وبعين سُكّانها، وليس فقط سرد للحقائق كما تفعل معظم الكتب. والكثير الكثير من مختلف الحيوات والرحلات التي خضتها في حوالي مئة كتاب إلى الآن. 

وهكذا أتنقل من كتاب إلى آخر، من وجهة إلى أخرى ، من حياة إلى الثانية! وكما قال الكاتب السعودي محمد حسن علوان، في كتابه موت صغير: “المؤمن في سفرٍ دائم والوجود كله سفرٌ في سفر. من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم.” وها أنا أسافر من كتابٍ إلى آخر، من شخصية إلى أخرى، أتعاطف مع هذه وأمقت الأخرى، أحب وأكره، أبكي وأضحك، أفهم وأحاول أن أتفهّم، أرى العالم بعيون كثيرة؛ ممّ يجعل عقلي متفتح بصورة أكبر لمختلف الاحتمالات والشخصيات والاختيارات والمآلات والتوقعات والحيوات! فأرى الحياة واسعة للغاية، فأحلق ولا حدود تحدّني، بحرية في سماء الله الواسعة. خيالي توغّل وتوسّع، ابداعي تعمّق وتجذّر، وحماسي وفضولي ملآ هذه الجذور بقوة هائلة تجعلها لا تُنتزع البتّة من تربة الحياة. رأيتني في بعض الشخصيات فتعاطفت معها، أقصد معي. وأحببتها فأحببتني. وفهمتها ففهمتني. ورسمتها في خيالي فوجدتني! ورأيت نقيضي في شخصيات أخرى لا أفهمها؛ ورحمتها، فرحمت من لا أفهم. وغفرت لها، فغفرت لمن لا أفهم. وسمعتها، فسمعت من لا أفهم. وهكذا رأيت كل فردٍ حولي يحمل قصة ثمينة تمامًا كقصتي! 

كُلّ هذا وأنا لم أتحدّث بعد عن عظمة القراءة في تمكين المرء من التعبير بحرية، فأخيرًا هناك مصطلح لكل شعور ومصطلح لكل فكرة،  فحصيلة المفردات الكبيرة التي يمتلكها القارئ تعطيه المَكنة في حديثه وكتاباته، فتجعله يصيغ آرائه وأفكاره بطريق تليق بها، فترقى به بين الحشود وتميّزه! فما بالكم بطفل يقرأ، أو أنا في مراهقتي، فتاة في أوج أحاسيسها وعُمقها؟ فمثلًا كتبت قصائد عندما كنت في السادسة عشر والسابعة عشر والثامنة عشر، الهامها كان مستمد من مختلف الشخصيات التي قابلتها في كتبي، فمن هذه القصائد: 

أقضمتِ قضمة من تفاحة الخلود؟ 

عجيبٌ كيف تعيشين بلا قلقٍٍ أو قيود! 

حياتُكِ حرة بسيطةً وهادئة لا تُقننها بنود.  

تسيرين على صراط الرحمة دومًا بلا حيود.  

روحُكِ يقظةً بينما أرواح الناس نيامٌ ورقود!  

قلبك صافٍ ولا تعيرين بالًا لقلب حقود.  

من يراكِ مرةً لا يلبثُ يومًا حتى إليك يعود.  

قلتي غفرتُ لكِ! ولكن من خجلي لا أملك أي ردود! 

لم يُحب فكرة أن يكون مسجونٌ لجسدٍ ماديّ فتمرّد! 

تجرّد من العادات والأفكار ومن القيود الذي يتقلّد. 

كان مثل أي انسان طبيعي تارةً يشقى وتارةً يسعد. 

ولكنّه عندما يشقى يعاني بكتمانِه انه حتى لايتنهد! 

لا توجد ثوابت بحياته فحتى عند شرب الماء يتردد! 

ثمينٌ هو كيف يحمل عبء الاشخاص على كتفه بينما هو عن اعبائِه أبعد 

أما آن له ان يستريح ويريح عقله الذي تلوّن بالرمادي وتوّقد؟ 

أخبرني كم دمعةً ذرفت بالأمس وكم دمعةً ستذرف بالغد؟ 

أقادرٌ أنت على تحمّل كلّ تلك الافكار، أم النار بعقلك تتوقّد؟ 

أفصح لي، أتتوجع ألمًا من عُمقك، أم أن روحك معه تتوحّد؟ 

صديقي، أيُهما يملأ تفكيرك أكثر، مسألة الوجود أم الخلودِ المؤبد؟ 

أما علمت أنك انتشلتني من هدوئي بنظراتك هذه إلى عالمك الأزلي المُمتد؟ 

لنتوه سويًا بعوالمنا فمالذي سيُضفي للحياة معنى إذ لم نكن بأفكارنا أسعد؟ 

هيهات لبؤسنا لو يعلم بأننا بفضل البؤس أرواحنا تتجدد.

فكيف لفتاة في مراهقتها، هذا العمر الذي تستشعر به تلوّن مشاعرها واقبالها على الحياة، ومشاعر جديدة مُرهقة وثقيلة لا تعلم كيف تعبّر عنها أو تضعها بحروف ونقط، كيف لها أن تكتب مثل هذه القصائد وإن كانت بدائية، إن لم تكن من الأساس قامت ببناء -بدون أن تعلم- قاعدة أساسية من المصطلحات؟ ولم يمس خيالها وفضولها اللذان كوّنتهما في طفولتها، أحد؟ لا أزال أعبّر بشكل أفضل بكثير في الكتابة أكثر من التحدث، ولكن هذا منطقي، لأني أحكي لأوراقي أكثر ممّ أحكيه لأشخاصي، وهذا محض عادة من المراهقة، لا غير. كانت القراءة والكتابة وسيلتي في فهم نفسي منذ وقت طويل، وهنا أستذكر ما قاله غازي القصيبي -رحمة الله عليه-: “وجدت عزائي في الكتب، اكتشفت هذا العالم الساحر الذي يعيش بموازاة عالمنا، يلامسه أحيانًا، ويحتله أحيانًا، ويغيب عنه أحيانًا، أطبق علي هذا العالم الساحر، أصبح حياتي الثانية الموازية، والملجأ الآمن من عالم غير آمن.” ونرى بلا شك كيف كان غازي رجلًا ذو أدوار شتّى وعقل سابق لزمانه، فلا بد من أن تؤثر القراءة على صاحبها بصورة أو بأخرى، وهنا مع غازي، لأن حياةً واحدة كانت لا تكفيه ، كان يقرأ كثيرًا ويكتب أكثر، فبالطبع دور واحد بحياته الشخصية والمهنية لن يكفيه!  

ولهذا في أوج قراءاتي أردت أن أرى ذات الدهشة في عيون آخرين، يشاركوني ذات الشغف وذات الحب، فكل شيء لا يحلو إلا بالمشاركة. أردت أن أستمع لمختلف الآراء لكتاب واحد، وكما يمكن تفسير لوحة فنية لعدة تفسيرات، يمكن قراءة كتاب وتحليله مختلف التحليلات، وهذا ما ألهمني بفكرة نادي القراءة، فأنشأته وكان أجمل قراراتي! شعرت بنبض القارئات يتسارع في حين ويبطئ في أحيانٍ أخرى، وأصواتهم تعلو بسخط وتهدأ بكل حب، أعينهم تمتلئ بالعطف ومرات بالكره، هذا المزيج من المشاعر جعلني أعج بالحياة بعد كل لقاء نناقش فيه كتاب ما!

ولهذا، لا ألبث أنتهي من كتاب حتى أقرأ الآخر، حتى إن كنت منشغلة، ساعة من القراءة تأخذني بعيدًا عن كل ما يشغل عقلي وقلبي، فتتفتّح عيناي وأبصر بوضوح سعة الحياة واحتمالاتها وضآلة حجم همومي! فأغدو خفيفة كخفة الهواء.

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ