في اليوم العاشر من شهر مايو 2025 أُقيم حفل تخرجي وفي اليوم الحادي والثلاثين من شهر مايو تخرجت رسميًا من جامعة طيبة بتخصص الفيزياء وها أنا للتو أغوص في مشاعري أثناء نسجها لكم لأنني ما زلت لم أعي إلى الان حقيقة مشاعري حيال هذا الأمر. فترة الجامعة كانت كأي مرحلة في حياتي تحمل في طياتها الكثير من التحديات، سواءً كانت تحديات أكاديمية أم تحديات الحياة بمجملها التي تكبر معنا كلما نكبر.
جلّ ما أعلمه أنني عشت معظم المشاعر التي تصاحب آخر سنة من الطعشات وبداية العشرينات، عشت الحب والنجاح والترقب والدهشة والصداقة ولذة الإنجاز والزمالة والفضول والتقدير والتميز، وبالمقابل عشت الفقد والفشل والخذلان والانطفاء والظلم والارهاق والتشكيك والبعثرة والتشتت. لأن ضريبة كل شعور هو تجربة نقيضه أيضًا، فهمت أبعاد الحياة بشكلٍ أفضل، اتضحت الصورة بشكل أكثر شمولية، ولكنها باتت غامضة أكثر بالنسبة إلي بالآن ذاته!
بدأت القصة بقبولي بتخصص كان ليس رغبتي الأولى، خُذلت ولكن أمانةً حتى عند ترتيب الرغبات لم أعلم حينها على أي أساس قمت برتيبها، كان كل تخصص مثير للدهشة بالنسبة لي، عمومًا منحت الفيزياء فرصة ولعله هو من منحني فرصة، كنت قد قررت أن أنتقل للتخصص المنشود بعد اكمال الفترة المطلوبة بالفيزياء ولكن المضحك أنني لم أستطع التخلي عن التخصص، ظللت أتسائل عن القادم وأقبل كل تحدي بحماسة، وفي النهاية أيقنت أن التخصص اختارني ولم أختره البتة، وأيقنت عندها أن اختيار الله يغلب كل اختيار في دقته وصحته والخير الذي يجلبه معه، وهذه احدى الدروس التي تعلمتها.
الفيزياء كانت ولا زالت غذاء لا ينفد لنهمي الذي لا يشبع، تجيب عن إحدى اسئلتي هنا والاجابة بحد ذاتها تترك في عقلي اسئلة أخرى هناك! كان من المستحيل ولا زال، أن ألمّ بكل جوانب الفيزياء، وهذا التخصص المثالي لفضولي اللانهائي. البحث لا يتوقف، القراءة فيها لا تنتهي، والدهشة في كل جوانبها تقربني من اللَّه أكثر وأكثر.
أنا أؤمن أن كل الكتب التي تقرأها في فترة ما من حياتك هي مكتوبة لتلك الفترة وتحمل رسالة لك في تلك الفترة بالتحديد، بالنسبة لي لا يوجد صدفة، كل شيء مكتوب لحكمة معينة، وهذا ينطبق أيضًا للأشخاص الذين تقابلهم، والأفلام التي تشاهدها، الخ… ولذا فترة الجامعة لا تنحصر على ذكرياتي وتجاربي داخل الجامعة فقط، وانما جميع ما عشته خلال تلك الفترة، لذا تخرجي من الجامعة لم يكن وداعًا للمرحلة الجامعية فقط! وانما وداعًا لكل كتاب قرأته، وشخص قابلته، وفلم شاهدته، وحوار أجريته، ومشاعر عشتها، وزعزعة تداركتها، كان التخرج ببساطة وداعًا لتلك النسخة مني.
وفي فترة الجامعة بدأت نشر كتاباتي بدلًا من الاحتفاظ بها بين أوراقي، وعندها ولدت مدونتي هذه وولدت معها من جديد، لذا كل مقالة دُوّنت هنا بطبيعة الحال تعبر عني في تلك الفترة وعن تساؤلاتي ومشاعري وكأنها توثيق أعمق لكل ما واجهته في فترة الجامعة. وفي فترة الجامعة أصبح نهمي للقراءة يكبر ويكبر وعندها انشأت نادي القرّاء، في كل مرة نتناقش بها عن كتاب ما، أجدني مليئة بالامتنان لأني خلقت مثل هذه المساحة لنفسي وغيري.
في فترة الجامعة لاحظت تميزي، فليس الجميع يركض خلف الفضول والدهشة لمحاولة الإجابة عن تساؤلاته كما توقعت، بل هنا كان الركض خلف الدرجات والتقييم، وأتذكر كم الاحباط الذي واجهني حينئذٍ. ولكن لم أتغير لأنتمي، ولم أحبذ المنافسة على أيّ حال، كنت أستمتع برحلة التعلم واختبار قدراتي، كنت أركض خلف المجهول بكل أمل، كنت أحاور وأستمع وأطرح الأسئلة وأجيب عن بعضها، حتى أصبح كل كادر التعليم في قسمي يعرف من أنا، ليس سبب سجلي الأكاديمي، بل بسبب فضولي وشغفي وتعطشي الدائم للعلم! وهنا قررت أن أحتضن هذا الجانب مني وأن لا أضيعه بغية المنافسة البتة.
في هذه المرحلة غالبًا نؤمن بذواتنا أكثر من اللازم، كل نجاح ننسبه لأنفسنا بكل كبرياء، وكل فشل نتقمصه وكأنه هويتنا ونغرق بمشاعره اللعينة، نصبح متمحورين حول ذواتنا في محاولة لإثبات أنفسنا للعالم وقدرتنا على تحقيق كل شيء! إما كل شيء أو لا شيء. في هذه المرحلة نبحث عن الاستقلال ونشق الطريق وكأنه لا يصح أن يشقه أحد معنا، ولكن مع الوقت فتحت قلبي أكثر وتقبلت المساعدة وتعلمت أن الصراخ للنجدة ليس الا غريزة فطرية متطبعة في الذات البشرية التي تتوق لحس المجتمع والعائلة والأصدقاء. في هذه المرحلة نتعلم أن العائلة هي كل شيء، الحضن الدافئ بعد كل عثرة، هي التقبل الكامل مهما كانت النتائج، هي الاحتفال بك لمضاعفة الفرحة ومواساتك لاقتسام الحزن، وكذلك هم الأصدقاء! ممتنة لك وعد على مرافقتي حتى في ذكريات الجامعة، ممتنة لك رزان على حرصك انني بخير بين المحاضرات، ممتنة لك هديل على الدراسة معي لساعات في الليل! الكثير من الامتنان لكم لأن رحلة الجامعة لم تكن لتصبح بهذا التألق في ذاكرتي لو لم تكنّ جزءًا منها!
قبل أن أتعلم القيادة، بابا كان من يصطحبني للجامعة ويعيدني للمنزل منها، وفي طريق العودة كنت أشاركه كل ما يجول في عقلي وقلبي إزاء مجريات اليوم، ولن أنسى ما حييت كل الدعم العاطفي الذي تلقيته منه في كل مرة أشاركه مخاوفي، لن أنسى كل مرة وقف بها بجانبي عندما اتعثر، ساعدني في مشروع تخرجي وكان خير السند لي! يحتضنني بكلماته الدافئة ويذكرني بحبه اللامشروط دائمًا وأبدًا. بابا ممتنة لك من أعماق قلبي، ولن أستطيع البتة التعبير عن مدى امتناني! وفي يوم تخرجي، لن أنسى أبدًا استقبالك لي بالأحضان خارج الجامعة مع بقية العائلة وعيناك مليئتان بالفخر، وكل الجهد في تزيين السيارة والبالونات واللافتة التي تحمل كلماتك المليئة بالدفء بجانب صورتي وانا طفلة، الطفلة ذاتها التي لم تكبر البتة بعيناك.
ماما، حضنها الدافئ واستقبالها لي بعد يوم طويل، ماما ومراعاتها لي، جلّ همها ان أبذل ما بوسعي في الجامعة وأن احصل على القسط الكافي من النوم، وأن لا أفوت وجباتي. لم تحمّلني في فترة الجامعة مهمة أو مسؤولية فوق همي ومسؤوليتي، كانت توبخني ان لمست صحنًا في المنزل لأنظفه، ترفض مساعدتي لها ان علمت انني مشغولة أو لم أنم كفاية. جلّ همها أنني بخير وأن ليس هناك شيء فوق طاقتي يستنزفني. ماما جميلتي، ياعيون بنتك، أنا تحت خدمتك ما حييت!
ومرحلة تتبعها مرحلة، ومحطة تتلوها أخرى، والنفس متلهفة والحياة واسعة، الحمدلله على ما مضى وحسن ظنٍّ باللَّه على ما هو مقبل!
ادلجْ إلى العِلمِ بليلِ الصبا
لتحمدَ الإِدلاجَ صبحَ المشيبْ
فالعلمُ مفتاحٌ لكلِّ المُنى
وسُلَّمٌ يَرقى عليهِ الطلوبْ
فما على بابِ العُلا حاجبٌ
ولا على غيدِ المساعي رقيبْ